fathel neema

تجربة فاضل نعمة وآفاقھ

ذاكرة خصبة تفتح بقوتھا الذاتیة نافذة المستقبل

إسماعیل زایر نوفمبر – 2000 - أمستردام

مثل كل فنان یرغب أن یكون معاصرا بالمعنى العمیق للكلمة نرى فاضل نعمة وھو یعمل على لوحتھ خارج الخطاب الیومي والعلاقات المألوفة مع الأشیاء والحواس، أكثر من ذلك یطمح فاضل إلى رسم ینطوي على بصیرة تشكیلیة، ولكنھ في النھایة، ولوحة بعد أخرى، یحاور وینتقي مفرداتھ لیقدمھا إلى المشاھد كجسر للتواصل مع العالم من جھة، وكشھادة

وتحدید للموقع الذي ینطلق منھ والأرضیة التي یقف علیھا. وباختصار رؤیتھ لنفسھ وللعالم.

بعد أكثر من عقد من السنین على انطلاقتھ وتخرجھ من أكادیمیة الفنون الجمیلة في بغداد، یعود إلى ذاكرتھ لینبشھا ویستنبط منھا صیاغاتھ الجدیدة للوجود. فھو إذ یرسم تحتشد الصور والثیمات في لوحتھ لتكون مجامیع متماوجة تلتقي وتفترق ضمن إیقاع متوتر كما ھي الحیاة الحقیقیة. ولكن إسقاطھ لشحنة الاحتدام والتوتر لا تشغلھ عن الانتباه إلى إخراجھ للمشھد العام للوحتھ بجمالیات معاصرة للغایة . فھو یربط التفصیلات بالفضاءات، ویفصل الكتل عن

بعضھا من دون أن یتخلى عن حداثة لوحتھ.

وبفضل ھذه الیقظة نرى أن أعمال فاضل تكتفي بشرط حداثتھا كجواز للتفاعل مع الآخر، فھو یعتبر أن تمسكھ بھذا الشرط إنما یجعلھ حقیقیا أكثر من أي شرط آخر . ولكن الممتع في الأمر عن فاضل ھو أن حداثتھ تتجھ بوعي صارم نحو الممر السحري إلى المستقبل ومن دون أوھام، وھو یتبنى أطروحة فاسیلي كاندینسكي القائلة : ))إن كل فن لا ینطوي في ذاتھ على

 

قوة مستقبلیة ھو فن عاقر!((.

إرث المكان الأول ولوعتھ:

في انتقالات فاضل عبر المكان ورحلاتھ ومنافیھ، جال قارات عدیدة قبل أن یستقر ویحط الرحال في ھولندا، ولكنھ جرجر في كل تلك الأمكنة إرثھ المكاني وبیئتھ الإنسانیة، وتمسك بدھشتھ الطفولیة، وبالمحیط الكربلائي، إلى قدر لا یمكن أن نخطئ انعكاسھ في كل لوحة، بل في كل تخطیط صغیر . فھو ارتقى بوعیھ البصري داخل المحتشدات العملاقة وما یجاورھا من عتبات ومراقد مقدسة. لذا ترى في لوحتھ خامة لا تخفى على العین البصیرة مرسومة

بأنغامھا اللونیة الممیزة: الأحمر القرمزي، والأخضر – المزرق، والبني، والأسود.

وربما یسمح المقام ھنا أن نذكر أن رسامي البلدان الساحلیة غالبا ما یستعیدون لون اللازورد )الأخضر + الأزرق المخفف(. ولكن الذاكرة العراقیة التي لیست بذاكرة بحریة تتشرب بلازوردھا الخاص من الفضاء المحیط في القبب والمآذن والمقامات الدینیة التي تملأ

المكان والزمان العراقي.

وھو مثل الكثیر من أترابھ من أبناء الجیل الثمانیني والتسعیني لا تعوزه الشجاعة للخروج من الإطار الأكادیمي الرباعي والمستطیل للوحة، إلى أشكال منبثقة من المحیط النفسي والاجتماعي ذاتھ، فنراه یرسم ضمن شكل الختم السومري والآشوري أو یستخدم الدائرة والسقف المقوس وغیره من الأشكال، دون أن تتوقف عند شكل الإطار الرباعي. ھنا نجد

انتماءاتھ إلى تقالید أساتذتھ العراقیین الذین طوروا مثل ھذه التقالید وكرسوھا. من الموروث ذاتھ نتلمس قوة التجسید ممتدا إلى جمیع أعمالھ تقریبا وبقدر من المبالغة

 

أحیانا، جاعلا منھ قوة الجذب والتفریق الطاغیة . فالعمق الذي یوفره التجسید ھنا، إذ یكتظ بتفاصیل الحشود )ولكنھا حشود غیر تشخیصیة ( للأشكال وتوزیع الفضاءات، یعطي المشاھد الانطباع أنھ على وشك الولوج في المكان أو الخروج منھ بالأحرى.

ومع المزایا التي تفرزھا ھذه المقتربات إلا أن لغتھ التشكیلیة تشي – إذا لم نقل إنھا تفصح – عن انقیاد الكائن لشرطھ والتصاقھ بروح التكوین والنسیج العام. كما لو أنھ یحتفي بوجوده في المكان ومن خلالھ. أي أننا قلما نجد الكیانات والكتل وھي متحررة من علائقھا بما یحیطھا، فكما في الحیاة الحقیقیة یبدو الكائن – أو ما تبقى منھ – وكأنھ یحتفي باندغامھ

وتلاشیھ في حشد یشده عضویاإلیھ.

لوحة تعتني بحداثتھا وموسیقاھا الداخلیة:

ثمة بعد آخر بوسعنا أن نلمسھ في لوحة فاضل نعمة ھو الحس الغرافیكي الخفي الذي رغم كل ألوانھ وخلطاتھ یبقى متجسدا وجلیا للغایة، وربما یعود ذلك إلى تجربتھ بھذا الجانب الإبداعي الممیز للفنون العراقیة المعاصرة، وھي تجربة إغناء من دون شك، إلا أنھا تطرح تحدیا بصریا إضافیاعلى الفنان تجعلھ أمام خیارات مركبة في التعبیر. ومن إفرازاتھا اللاحقة انحباس حزمة الألوان في بؤر التركیز الغرافیكي وتوزعھا على السطح من تلك البؤر. ھذا ما دفع النقاد التشكیلیین الذین كتبوا عن تجربة فاضل إلى الإشارة إلى التراص المفرط للتفاصیل والتشظي المشحون للأشیاء إلى درجة الإحساس أننا أمام لوحة ملحمیة أكثر منھا لوحة

دھشة بصریة بحتة.

ولكن أشكالھ اغتنت بنفس جدید منذ بضعة سنوات لاسیما لجھة توجیھ التكوین لیخدم تعبیرات أكثر تلقائیة وعفویة مما یوظف تقالید خبرات غربیة متراكمة في لوحتھ تعمقھا أولا

 

كونھا تطلقھا في سماء أكثر فسحة، ولأنھا تقدم لفاضل تلبیة لازمة لحاجتھ إلى تفریغ شحنة التراص الموروث وتسریبھا عبر إطلاقھا ضمن آلیة جدیدة تكون الحواس العفویة أحد محركاتھا.

وتنطوي لوحة فاضل الآن كما في السنوات الأولى عل غنائیة وموسیقى داخلیة ملموسة، وعمران ممیز ینقل للمشاھد موضوعھ البصري عبر ترتیب مموسق تتنوع وتائره مرة بعد أخرى، حیث ھو صاخب ووامض مرة، ومدید ومسترخ مرة أخرى.

إن تجربة فاضل نعمة في النھایة تجربة تشكیل حدیث ولكنھ غیر منقطع عن الذاكرة.. تجربة تكتسب حیویتھا من داخل الفنان ولیس من خارجھ، ومن داخل العمل وتقنیاتھ وشحنتھ النفسیة ولیس من خلال الموضوع ورمزیتھ.

ھنا لا بد من القول إن تعبیریة فاضل تنأى بعیدا عن الرمزیة والمباشرة التي سقط فیھا قسط كبیر من جیل التشكیلیین الرابع في العراق، كما بوسعنا أن نطلق علیھ.

أي أن فاضلا لم یتعكز على الموضوع أو الكلیشیھات التشكیلیة التي ابتذلھا فن السلطة ومؤسستھا. وھو إذ أنقذ لوحتھ من ابتذال التراثیة والھویة والشعاراتیة ھو قرنھا بعناصر تشكیلیة موضوعیة یدخل بھا ومعھا إلى المستقبل بقوتھ وحیویتھ الذاتیتین.

© 2006-2007 ءوض ةعقب ةكرشل ةظوفحم قوقحلا عيمج مساق رامنا :ميمصت