fathel neema

 الفنان التشكیلي فاضل نعمة لــ)الزمان(: الحداثة لا تعني إلغاء الھویة، بل تنطلق منھا - عدنان حسین احمد

الفنان التشكیلي فاضل نعمة لــ)الزمان(: الحداثة لا تعني إلغاء الھوية، بل تنطلق منھا - عدنان حسین احمد يري بعض النقاد أن تجربة الفنان فاضل نعمة ھي عبارة عن بحث محموم فیما ھو ملغز ومحیر وغامض. فھو لم يرتكن إلي تیار أو مدرسة فنیة لفترة طويلة من الزمن، لأنه منھمك في التجريب، ومتطلع إلي الابتكار، ومسكون بھاجس المغايرة. ومرّد ھذا النزوع القلق ھو رؤيته الإبداعیة التي استطاعت أن تحتوي مذاھب فنیة عدة في آن واحد كالكلاسیكیة والواقعیة، كما تجاوز المنحي الأكاديمي والأسلوب التشخیصي بفترة قصیرة جداً، معتمداً علي ذائقته الفنیة التي قادته مباشرة إلي الفضاء التعبیري المقترن بنفس تجريدي واضح. وإذا كان أستاذ الفن التشكیلي سعدي عباس يري في الفنان فاضل نعمة )شاباً مثقفاً يدعم أعماله الفنیة بخلفیة ثقافیة( فإن الفنان التشكیلي د. داوود سلمان عناد يري فیه )فناناً ناضجاً علي الرغم من قصر عمر تجربته الفنیة(.. فاضل نعمة يطالب المتلقي بأن يحس بالعمل الفني ويشعر به، ويشدد علي القول بأن سطوة ھذا الشعور كفیلة بأن تقود المشاھد إلي تحقیق المتعة البصرية التي تفضي بالنتیجة إلي

تشظیات اللذة الفنیة المراوغة. وبالرغم من نزوع الفنان فاضل نعمة إلي التجريب والتجديد فإنه ما يزال

متشبثاً بموروثه الحضاري، وثقافته المحلیة، وھويته الرافدينیة التي لن تلغیھا مؤثرات الغربة المكانیة، بل أن مشروعه الفني يراھن علي ھذه الخصوصیة ويعوّل علیھا، ولھذا فإنه يحمل موروثه المكاني علي منكبیه :أني حل وأرتحل. ولاستجلاء أبعاد تجربته الفنیة التقته )الزمان( فكان لنا معه ھذا الحوار

لكل فنان تشكیلي ثمة عرّاب أو أب روحي يتطلع إلیه بعین الإعجاب، وينظر إلي تجربته كنموذج ومعیار. û من ھو أبوك الروحي؟ وكیف تقیّم تجربته الفنیة؟

ــ طوال تلك الفترة، فترة الطفولة، لم أغادر المدينة )كربلاء(. كنت أسمع بالعاصمة بغداد وأخافھا، ولكنني بعد أن بدأت أتعرّف أكثر علي الفن والفنانین وعن طريق بعض معلمي الرسم في المدارس التي درست فیھا شاھدت بعض الكراريس والكتیبات عن الفنانین العراقیین وبالذات الروّاد منھم أمثال فائق حسن، جواد سلیم، إسماعیل الشیخلي، فرج عبو وغیرھم. ومنذ ذلك الوقت شدّ انتباھي أستاذي وأستاذ الأجیال الفنان فائق حسن. وكنت أتمني أن أكون مثله بقوته التخطیطیة وألوانه وإنشاءاته وتكنیكه. بعدھا ذھبت في

سفرة إلي بغداد مع بعض الأصدقاء قاصدين السینما ذلك العالم المدھش الذي لم أركز علیه من قبل. وبما أن طريق السینما يمر بشارع السعدون المكتظ بالمكتبات والكتب فقد اشتريت من ھناك بعض الكتب والكراريس عن الفن العراقي. في كل بداية ھناك ثمة بساطة في الاختیارات والتفكیر. وكان الفن الواقعي والأكاديمي والكلاسیكي ھو السائد والمھم بالنسبة لي، أما الفن الحديث فقد كنت أعتبره سھلاً، ولا يحتاج إلي جھد أو معاناة! وربما ھو ضحك علي الذقون، وبالإمكان أن أرسم مثله! اكتشفت أن ھناك فرقاً كبیراً بین الفنان والرسام، فأغلب فناني العراق الرواد ھم رسامون ما عدا فائق حسن وجواد سلیم وخالد الجادر وشاكر حسن آل سعید، فبعد دراستھم في الخارج نقلوا إلینا تجارب الانطباعیین الفرنسیین والتعبیريین الألمان، ولكن بشكل أبسط، وكانت أغلب أعمالھم تمثل الطبیعة والبورتريت والحیاة الجامدة. قبل سنوات قیل أن كل تجارب النحت العراقي مرّت من تحت نصب الحرية للفنان جواد سلیم، وكل تجارب الرسم مرّت من تحت جدارية فائق حسن والذي جرّب كل شيء، وأبدع في كل شيء كزمیله جواد سلیم، ومازلت أنظر .للاثنین علي أنھما بحق أستاذا كل الأجیال الفنیة التي جاءت من بعدھما

كلنا نتائج لأناس سبقونا

ھل نستطیع القول أنك تتوفر الآن علي بصمة خاصة تحیلنا مباشرة إلي التشكیلي، أم أن مؤثرات الآخرين û ورؤيتھم ما تزال تھمین علیك، أو تلقي بظلالھا علیك في اضعف الأحوال؟

ــ مرة قال الشاعر أدونیس )كلنا نتائج لأناس سبقونا( أنا أشعر بالامتنان والعرفان لجمیع أساتذتي

وأصدقائي الذين علموني ونصحوني وأضافوا إلي تجربتي الشيء الكثیر. فلا عیب أن يتعلم المرء من تجارب وخبرات الآخرين، لكن بشرط أن يكون ھو، ولیس نسخة عنھم. فما أسھل التقلید وما أصعب الابتكار! أما ما أسمیته بالبصمة، وتقصد به الأسلوب فھي كلمة واسعة. قسم يعتقدون أن الأسلوب ھو إنتاج نموذج واحد، لكن بطرق مختلفة وألوان متعددة طوال حیاتھم. أنا أعتقد أن الأسلوب أو البصمة، سمّھا ما شئت، ھي أن ترسم ما يحلو لك شرط أن تكون مجدداً، ومبتكرا، ولا تقلّد أحداً. خذ مثلاً بیكاسو، لقد جرّب ورسم ونحت كل شيء، وعمل ضمن مختلف المدارس، ومرّ بمراحل لونیة متعددة. إنه بحق مبتكر، ومكتشف، وفنان كبیر، ولم يكرر نفسه أبداً. قال الفنان الأمريكي جاسبر جونز ذات مرة )أن تكرر ما تعرف فقد يبعث ذلك علي فقدان الاھتمام، ولكن عندما تخلق شیئاً جديداً فإنك تشعر بحیوية متزايدة تماماً كما فعل مھرج سیرك فرنس عندما .)كسر ساق ابنه لیجعله يمشي علي نحو يثیر الضحك والاستغراب

بناء اللوحة والتكنیك

أعددت أطروحة التخرج ثانیة في أكاديمیة لاھاي الملكیة. ولديك مشروع فني خاص بعنوان )بصیرة û تشكیلیة( ما ھي طبیعة ھذا المشروع. وما الرؤية الكامنة بین طیاته وتفاصیله الصغیرة؟

ــ نعم، تخرجت ھذه السنة من الأكاديمیة الملكیة في لاھاي. وكانت تجربة الدراسة مھمة وتختلف عن دراستنا في بغداد كثیراً. ھنا يولون الفكرة أھمیة قصوي، ولا يشكل عندھم التكنیك واللون الأھمیة نفسھا. كان أساتذتنا يؤكدون علي البناء، بناء اللوحة والتكنیك واللون والإنشاء. وأتذكر كان الأستاذ محمد صبري، وھو فنان من جماعة الأربعة، وأستاذ في أكاديمیة الفنون الجمیلة في بغداد، كان يقول: )لیست مھمة

الفنان أن يتحدث عن أعماله لأنه لیس كاتب قصة، فلو كان كذلك لكتب ما يريد وعلقه بدل اللوحة( قدّمت في .Lithography و Etching أطروحة التخرج أكثر من ) 250 ( عملاً زيتیاً وتخطیطاً ومواد مختلفة، وكرافیك، و يحتوي علي ثلاثین عملاً كرافیكیاً أصلیاً )لیثوغراف وحفر )Original Graphic( كذلك قدّمت نسخة من كتاب علي الزنك(. ونتیجة لھذا العرض الناجح كما أعتقد قدمت إليّ كثیر من الكالیريھات عروضاً متعددة، وعرضاً .)Original Graphic( مھماً جداً من متحف بويمانز بالتعاون مع متحف البلدية في لاھاي ومؤسسة

يطغي علي أعمال معرضك الذي أقیم في )فورسخوته( الأسلوب التعبیري الممزوج بنفس تجريدي واضح، û بینما كانت التشخیصیة تشكل معلماً بارزاً في معارضك السابقة. ھل تعتقد أن التشخیصیة ستضمحل أو ربما تتلاشي من اللوحة الفنیة؟

ــ إن الزمن والحیاة في تطور دائم، وأعتقد أن أول من علیه أن يتقدم ويبحث عن الجديد المختلف ويكتشف ھو الفنان، وھذا ھو حال كل الفنانین. فكما قلت لك قبل قلیل كان التشخیص ھو ھمي الأول، كیف أجسده، وأعالجه تشريحیاً ولونیاً.. اكتشفت أن المسألة بسیطة جداً فماذا بعد ذلك.. عليّ أن أفكر بالجديد غیر

المكتشف. أنا أقول علي المشاھد العادي أن يطالب الفنان الذي يرسم أشخاصاً أو خیولاً أو طبیعة أن

 

 الفنان التشكیلي فاضل نعمة لــ)الزمان(: الحداثة لا تعني إلغاء الھویة، بل تنطلق منھا - عدنان حسین احمد

يطالبه بالجديد. أن يقول له أنا شاھدت الكثیر من البشر والحیوانات والطبیعة مثلما ترسمھا أنت. أنا أريدك أن ترسمھا كما تعرفھا، ولیس كما تراھا. كما قال بیكاسو ذات مرة )نعم، إن الأشكال موجودة في أعمالي، لكن كما أراھا أنا، كما أكتشفتھا أنا. إنھا تحررت من أسمالھا الزائدة الثقیلة، وبدت في حلة جديدة(. إن الرموز

والإشارات التي يستخدمھا الفنان ھي برھان علي أن اللغة التي يستخدمھا ھي وسیلة تعامل مع غیر المدرك والملغز. وما أن تصبح ھذه الإشارات والرموز قابلة للإيصال علي كل مستوي حتي تفقد قیمتھا

وفاعلیتھا، وتكون مباشرة وعديمة الفائدة. أعتقد أنني لم أغیّر أسلوبي أساساً، لكن ما فعلته ھو أنني تطورت مع الحاجة الملحة لتعلم الجديد والطارئ. تدھشني كثیراً أعمال الفنان ضیاء العزاوي ورافع الناصري .وشفیق عبود وحامد ندا وولیم دي كوننغ وروثكر وراوشنبرغ

في معرض التخرج الذي أقمته في أكاديمیة لاھاي الملكیة ثمة ثیمات ملحمیة لافتة للانتباه. ففي اللوحة û الواحدة ثمة صور وفیكرات تعبیرية متماوجة، ومتداخلة تضع المتلقي في دائرة الإيھام. ما سر نزوعك إلي ھذا النفس الملحمي في الموضوع تحديداً؟

ــ ھناك موضوعات لا تشكل موضوعاً أو فكرة رمزية، بل تبقي شكلاً بحتاً ھو غاية ذاته. شكلاً يظھر جماله الخاص، ويكسر منظومة القیم الجمالیة السائدة، يستفز المشاھد مثیراً الدھشة والتساؤل. مرة سألت

صحفیة الفنان الكبیر بیكاسو: ما معني ما ترسم؟ أنا لا أفھم لوحاتك؟ قال لھا: اذھبي وأجلسي تحت تلك الشجرة. فعندما عادت سألھا بیكاسو: ماذا سمعتي؟ قالت: زقزقة عصافیر وھديل طیور. فقال لھا: ھل ھي جمیلة؟ وما معناھا؟ قالت: لا أعرف ماذا تعني، ولكني أشعر أنھا جمیلة. فقال لھا بیكاسو: لا تبحثي عن قصة، بل أشعري. مثلما طُلب من بتھوفن معني معزوفة موسیقیة فأجاب بعزفھا مرة ثانیة. إن لدي أغلب مثقفینا )ثقافة قولیة( إذا صح التعبیر، ولكننا نفتقر إلي الثقافة البصرية مع أن الرؤيا أصدق من الكلام.

فالناس كما قال سنیكا يصدقون الرؤيا أكثر من تصديقھم للكلام. رغم أن أكثر مثقفینا يستمعون إلي

الموسیقي وھي أكثر الفنون تجريداً، لكن عندما تصل المسالة إلي اللوحة التجريدية، أو حتي إلي أي عمل حديث غیر تشخیصي تختل ثقافتھم ولا ينكروھا. بل يشككون بالفنان وعمله، وأنا لا أقصد الكل طبعاً. وببساطة فإن التجريد ھو شكل أو وضع ثلاثي الأبعاد نقل إلي بعدين اثنین )اللوحة(. أما النفس الملحمي كما عبّرت عنه أنت في سؤالك فأعتقد أنني ما زلت أسیر الملاحم الرافدينیة، والمشاھد العاشورائیة، وتلك الحشود الراجلة التي تأتي إلي المدينة طوال أيام السنة. علي الأقل أنا أسیرھا في تكوينھا وإنشائھا .وألوانھا، ولھا تأثیرھا الأكید علي أعمالي وأعمال فنانینا العراقیین

مھنة الحواس والمشاعر

قال عنك الناقد التشكیلي كفاح الحبیب )أن فاضل نعمة يھب التكوين اللوني المتراص بعداً تأثیرياً قوياً û

ويصل إلي درجات من التلاعب بالأشكال تجعله يتغلغل في مكمن التنويع الفني ( ھل لك أن تتحدث لنا عن تقنیاتك اللونیة، وانسجامھا، واندغامھا مع بعضھا بعضاً؟

ــ إذا قدر لي أن أقیّم فني يعني ذلك النظر إلیه علي أنه شكل مستقل بذاته، شكل يقوم تأثیره الجمالي وإغراؤه علي نسب معینة، ومقادير متوازية، وعلاقة كل جزء بالآخر وبالكل أيضاً، وھكذا فالفنان التشكیلي يتعامل مع أخطر مھنة! إنھا مھنة الحواس والمشاعر. إنه يحیل الأشكال الواقعیة والطبیعیة إلي خطوط

وألوان. أي أنه يجعل من العالم المشاھد إشارات وألوان وخطوط تعبّر عن ذاتھا، ولا يفترض أن تكون لھا قصة. يقول بونويل: )تحتاج الذاكرة باستمرار التصورات والأحلام، وحیث أن ھناك إغواءً ما لتصديق الحقیقة المتصورة، فإننا نصنع حقیقة من أكاذيبنا( فالذي أفعله ببساطة ھو أنني أكشف عن دواخلي وأحلامي بما فیھا )مكبوتاتي( بواسطة وسائل مختارة ھي الألوان والأشكال التي أضعھا علي سطح اللوحة بالشكل والطريقة التي أريدھا، ولا أفترض أن ھناك أحداً لا يفھمھا! أشترط أن يكون ھذا الكائن سماوياً، ولیس أرضیاً! .يشعر بالشيء ويحسه قبل أن يقرأه أو يطلب من الفنان شرحه

ما ھي الحاجة الأساسیة التي تدفعك لاستخدام الكثافة اللونیة علي ملمس القماشة؟ ھل تبغي û

الحصول علي تضاريس شكلیة وكأنك تقدم للمتلقي حفراً بارزاً، أم أن ھناك مقاربة أسلوبیة حبیسة في ذات الفنان؟

ــ نعم، ھي حاجة لیست تقنیة حسب، ولكن ربما لتأكید الفعل، فعل الضربة السريعة بفرشاة عريضة مثلاً أو سكین الرسم، أو بروز إضاءة. فتراكم لون ھنا أو تعريته ھناك كل ھذا يشكل إيقاعاً، ويجعل العین لا تمل من مشاھدتھا، شرط أن يحسن الفنان استخدامھا ووضعھا في مكانھا المناسب. فمثلما لاتجاھات اللمسات تأثیرھا علي اللون والمساحة والكثافة أيضاً، والتي تؤكد في أحیان كثیرة قدرة )Directions of Strokes(

الفنان وسیطرته علي اللون والتقنیة والتي ھي تراث للفنان لا ينفصل عن خلفیاته الثقافیة والفكرية. إن انتقاء طرق ومواد معینة لاستعمالھا مرتبط بمفاھیم وحالات لھا جذورھا العمیقة في كیانه ووجدانه. يقول الفنان الفرنسي نیكولا دي ستايل: )أنا أقضي لیالٍ بتكسیر الخط، وأصوّر كما أھرس العنب، ولیس كما أشربه خمراً( ودو ستايل ھو أول من وضع الأحمر بالفرشاة، ووضع فوقه أحمر بسكین الرسم من الفنانین .الحداثیین

جريدة )الزمان( العدد 1287 التاريخ 2002 - 8 - 15