fathel neema

فاضل نعمة: الذاكرة والمخيلة

 

 

    اللوحةُ التجريدية تقطعُ كلَّ خيطِ وصلٍ مع شكل ألأشياء والأحياء. إنها تستسلمُ للشكل الذي يولد من علاقات الألوان، الخطوط، الكتل، والفراغات. الكثيرُ ممن يميلون إلى التجريد ليسو تجريديين في حقيقتهم. إنهم يتخيلون الأشياء والشخوص ويسعون إلى "تجريدها" من التفاصيل، ويضفون عليها تفاصيل من مخيلتهم الفنية. وينتظرون من المشاهد أن يعيدها إلى أشياء وشخوص من مخيلته هو. أي أنهم يتعاملون مع التشخيص بصورة تجريدية. وأرى أن الفنان فاضل نعمة واحدٌ من هؤلاء.

 

    بالرغم من أن فاضل يحاول التجريد الخالص في عدد محدود من لوحاته، إلا أن عالمه تشخيصي. المشاهدُ يحتاجُ إلى جهد يسير لالتقاط ذلك. وأعتقد أن السبب هو ميل الرسام، في تجربته الفنية على امتداد السنوات العشرين الماضية، إلى رؤية الأشياء والأحياء عبر مخيلة طفل، مبرأة من الالتباس الداخلي، لأن عالم الدمى مثيرٌ لديه. ولكن التحول إلى زاوية نظر أخرى لا يعني انتزاع الجذور تماماً من عالم الطفولةِ السحري.

 

    في ركن من بيته خزانة صغيرة نظم فاضل على رفوفها الزجاجية منتخبات من الدمى الفخارية الصغيرة، التي كان يلتقطها على الطريق. متحفُ الكائنات الصغيرة الزجاجي هذا لا مكان فيه لمصنوعات مجرّدة. بل شخوص وهيئات حية، عادة ما تكون منتخبة من رغائب جمالية لطفل.

 

    زرتُ بيت الفنان في هولندا مرتين، وفي كلِّ مرة أعجب من الرغبة الملحّة في توفير النظام التام للأشياءْ. هناك غبطة بالفراغ المفتوح. وغبطة برؤية الأشياء وهي تحتلّ مكانها وفق توازن واضح. على أن الفراغ المفتوح (في غرفةِ الاستقبال مثلاً) مُلحق بالكتلة المكونة من كتب، لوحات متراصة، خزانة أعمال الحفر على الزنك، والأعمال اليدوية. ومنها يستمد قوّة تأثيره. الهارموني في علاقتهما نفعي، وجمالي في آن. المشهد يقول لك: كلُّ شيء على ما يُرام.

 

    الأمر ليس ببعيد عن لوحة فاضل. هناك دائماً فراغٌ، وهناك كتلة. وهارموني بين قوتي الفراغ في اللوحة وقوة الكتلة. ما من صراع بينهما، بل سعي للتوافق. في واحدة من اللوحات كتلة عمودية تتمتع بألوان كألوان السجاد الشرقي (امرأة ربما، بإيحاء دائرتين في ألأعلى، ومثلث أسود في الأسفل )، تتوسط قماشة الكانفس، المغمورة بلون برتقالي مائل للصفرة. ولكي يُضفي الرسام مزيداً من التوازن، وضع قوساً نصف دائري فوق الكتلة المنتصبة، ينتهي بعمودين على الجانبين. أسلوب يذكر بحرص الكلاسيكيين ( رافائيل مثلاً) على توفير أكبر قدر من التوازن في التأليف.

 

    في لوحةٍ لعربة بعجلات تغطيها سحبٌ لونية وشرائطٌ وخيوط تُقبل من اليمين، ترى الفنان أسند هذه الكتل مجتمعة على خط مستقيم ورقيق لنصف مربع في الأسفل،  ثم مدّ في الأعلى سحابةً سوداءَ ثقيلةً باتجاه اليسار، مقابل الكتل خفيفة اللون التي على اليمين. احتفاء بالانسجام الذي تجده في معظم لوحات فاضل.

 

    فاضل نعمة الذي ولد عام 1964 في مدينة كربلاء الدينية، يصلح هو وجيله، أن يكون سجلاً للعراق المعاصر الملتاث بالدم والدخان، منذ انقلاب البعث الأول 1963 ، مروراً بانقلابهم الثاني عام 1968، وسنوات الحربين المدمرتين (1981-1991)، وسنوات الحصار المريع (1991-2003)، ثم حرب الإرهاب، حتى المنفى الذي يبدو هادئاً في الظاهر.

 

      مرة تحدث عن توتره واضطرابه (بفعل الظرف العام والظرف الشخصي) وسألني: كم انعكس ذلك على لوحته؟

 

    ما من أثر مباشر. قلت له. على العكس تماماً، فلوحتُه تتمتع بميل واضح إلى التوازن، والصفاء، والسكينة (في الشكل، اللون، الخط، والتأليف...) وما من ملامح توتر. الحدّةُ التعبيرية في اللوحة عادةً ما تكون وليدةَ توترات والتباسات سايكولوجية داخلية لا شأن لها بالأحداث خارجها. وهو مبرّأ منها. أما مآزق الظرف الخارجي، ومآزق الظرف الشخصي، التي يتعرّض لها الجميع، فلا تولّد حاجةً تعبيرية لدى الفنان. إنها عوامل تظل طارئة على النفس. وحين تكون هذه النفس على قدر من البراءة، فإن الضغط الخارجي يبدو لها تعسفياً لا تقدر على مقاومته. ولذا تحاول الهرب منه في اللوحة إلى توفير أكبر قدر من التوازن الممكن، وتحقيق كل السكينة الممكنة. إنه نوع من التخلي عن الذاكرة ومعانقة المخيلة.

 

    إنسانُ (الخبرة) experience حين يكون فناناً، يكون تعبيرياً بالضرورة، فعناصر تعبيريته كامنة في داخله. إنسانُ (البراءة)innocence  الذي تخلو أعماقُه من الالتباس والارتباك، يتفرغ، على العكس، إلى توفير ما يقدر عليه من عناصر الهارموني، في اللون، والخط، والتوازن... ولذلك تبدو لوحة فاضل نعمة احتفاءً متواصلاً بعلاقات الألوان ببعض، وتسلل الخطوط الرقيقة على مساحات اللون، واحتضان دائم للكتل من قبل خلفية تحيط بها من كلّ جانب، و تتسع للون واحد. الرجل البدائي المنتصب ككتلة حادة الزرقة، وبتكشيرة حيوانية، لا يبدو لعين المشاهد بأكثر من بطل في حكاية أطفال بريئة. مقارنة بكيانات التعبيريين البدائية التي تثير الروع.

 

    فاضل نعمة غزير الإنتاج، بالغ التنوع في الرسم، والحفر على الزنك، الكولاج، التخطيط، الأشكال الكارتونية المجسمة، والكتب الفنية. مرسمُه (مخزن سفلي) صغيرٌ تماماً. ولكن الفنان المدبر لعلاقة الفراغ بالكتلة، جعل الفسحة الصغيرة المتبقية من حمالة اللوحة، وضاغطة الحفر على الزنك، وحوض الأسيد، والكانفس، والورق...، كافية لحركته في العمل.

 

في السنوات الأخيرة صار فاضل كثير الميل إلى استخدام الكولاج في لوحاته الكبيرة خاصة. أسلاك، كتل، وورق ملون على الأغلب. الأسهم والأرقام والحروف العربية واللاتينية حاضرة ككتلة أو كلون. إنها لا تُحيل إلى الحياة خارج اللوحة، بل تستضيف الحياة إلى داخل اللوحة، وتُشركها في الحفل التشكيلي. وهذا التزاحم لعناصر الكولاج يبدو وسائل طيعة للتوازن، لا وسائل لخلق مزيد من التعارض والتضارب.

 

    في الخاتمة أود أن أُهنئ الفنان على مثابرته الدائمة من أجل مزيد من المعرفة لسبل الفن، غير مُكتشفة من قبله، ومزيد من تُقنيات العمل.

 

                                                               فوزي كــريم

                                                              لندن 2008