fathel neema

مرایا المقھى

یاسین النصیر

ynazal@wanadoo.nl

الحوار المتمدن - العدد: 1630 - 2006 / 8 / 2

نحن نسعى لوجود نوع من النصوص تعكس طریقة وجودنا فیھا ،ھمنا الأساس ھو أن لانقول ما لم یحدث ، بل ان نراقب ما یحدث، وان نثمن ما یحدث، وان ننتقد ما یحدث، وان نرفض أو نقبل ما یحدث. نحن في مرحلة عراقیة لیس فیھا مستقر ثابت أو متحرك بلا ثوابت، أننا في دوامة من حركة السلب والجذب التي تمنحھا لنا إرادات الناس وھم في حركتھم الیومیة.

1 ثمة رغبة حقیقة لدي الكثیر من المثقفین العراقیین لأن یقال لھم أنھم موجودون في الشارع العراقي، أینما كان ھذا الشارع وفي اي زمان یكون، وھي رغبة ترتبط بھاجس الوطنیة كي لا یقال أن فلانا قد نسي المنزل الأول على حد قول ابي تمام. وترتبط ت الرغبة اكثر بفقدان الذات لجزء مھم منھا وھو أنا الآخر الذي یشكل نصفھا المختفي فیھا ، وكأن ھذا الآخر في الوطن ھم ممن یتكلمون لغتھ ویشتركون معھ في ھمومھ وأفكاره، ثم فجأة تغیر ھذا الآخر بعد الھجرة لیصبح كائنا جدیدا مختلف الثقافة والفكر. وعلى العراقي أن یكیف نفسھ كي یجعل من الآخر الغربي قریبا منھ، أو یكمل ما فقده من غیاب الآخر الوطني. وھذه النقلة بین الأثنین ھي ما تشكل غیاب الأنا الجدیدة وضیاعھا بین أن تتمسك بما كانت علیھ فتعیش على الذكریات، أو ان تنفتح على الجدید فتتطور. أن تشكیل مرایا الذات یتطلب تشكیل مرایا للآخر ھنا تبدا مشكلة البحث عن الھویة فھل فقدت الھویة السابقة التي تحملھا على ظھرك صورتھا في مرآة أوربا؟ أم أنك ستجملھا وتحشوھا بما ھو اوربي لا یطغى على محلي قابل للتغیر ؟ المشكلة تبدأ عندما نفكر في ھل نحن حداثویین أم لا؟ وعندئذ نبدا بالبحث عن افق یصور لنا القدرة الذاتیة على الاندماج والاستمرار. والافق الذي اعنیھ ھنا ھو وجود مرایا قائمة امامنا باستمرار كي لا نجعل انفسنا غائبین عن انفسنا. إن مشكلة الإنسان غیر المندمج ھو شعوره بان ھویتھ ھي شخصیتھ الجدیدة والقدیمة، معا وأن ھذه الھویة مشكلة بعوامل غیر قابلة للتغییر وھو ما یؤدي إلى العنف أحیانا عندما یصطدم بھویات لآخرین من التصور نفسھ، في حین أن قدرتھ على تحریك المرایا في كل الاتجاھات وحدھا التي تجعلھ في بؤرة الحدث دون أن یفقد ھویتھ. فالشارع العراقي على المستوى الرمزي والعاطفي ھو تعویذة تصاحب أي عراقي مھما تنقل أو استقر. شارع لا ندیر لھ ظھرنا لنستعیر مفرداتھ من مرایا تقبع في جوف مقھى أخر. بل ھو خارج المرایا كلھا، كائن في ذلك الھاجس المتحرك بین الأسواق والدوائر والساحات والمدن والتواریخ والجبھات یقع في البیت و المدرسة والجامع، یصحبنا للدرس وللعمل وللنزھة وللحرب، یعوم في النھرین، منشدا المقامات العراقیة ویتسلق الجبال ویسافر على جمل صحرائنا الصبور. فالبحر في محیط استرالیا المائي كان شارعا عراقیا للمھاجرین الذین غرقوا فیھ ھؤلاء الذین تركوا مرایا الشارع العراقي خلفھم وجاءوا لینشغلوا بالتحرر من القید، مثلھ مثل لندن أو امستردام أو باریس التي تغرق مھاجرینا یومیا بالعادي الثانوي . فالشارع العراقي ھو من یحقق وجودنا في ابسط فعل نمارسھ. شخصیا أنتمي لشوارع الكرادة والسعدون والثورة والبیاع وكورنیش البصرة ولتقى تانھرین في القرنة وازقتھا لأن الناس ھي التي أسستھا، ولا انتمي لشوارع المنصور وكرادة مریم و14 رمضان لأن السلطة ھي التي اسستھا، وقد یكون ذلك من قبیل التأكید على البعد النفسي/ الثقافي عندما تتحول الشوارع إلى بؤراستقطاب مختلفة

للقوى الإنسانیة. فتصبح مقبولة حینما تشعر أن الناس قد بنتھا وصیرتھا علامة في حیاتھم ومرفوضة عندما ترتبط بمؤسسات الدولة ورجالاتھا. من یقبل منھا یتحول الإنسان فیھا إلى مرآة بذاتھ، ومن یرفض منھا تتحول ھي إلى مرایا في جوف مقھى لیس فیھا رواد. الیوم 22-10-2005شاھدت معرضا للفنان التشكیلي فاضل نعمة في متحف مدینة رایزافیك الھولندیة، وھو من جیل الشباب الذین تدربوا في العراق ومدارسھ وغادر مع حجافل المثقفین للخارج لیستقر في ھولندا، المعرض أكثر من جدید وجمیل وفیھ وجدت إنساننا العراقي وھو مكبل بیومیات الشارع الھولندي :إعلانات ورسائل یومیة وأوراق البلدیة وقوائم الكھرباء والماء و الضریبة ورسائل الصحف واعلانات الاسواق والبضائع وأمكنة السیاحة والمتاحف والحدائق والقطارات، إنسان مضغوط تحت ھالة كبیرة من الحیاة الیومیة للشارع الھولندي وقد توزعت ھذه الورقیات على مساحات سوداء وبنیة وخضراء ورمادیة وزرقاء مع تعاویذ عراقیة لمزارات قدیمة – الفنان من موالید كربلاء- یرددھا إنسانھ المجرد الملامح لعلھا تنجیة من مخاطر الھالة الغربیة، وثمة ضغوط ھائلة تمارس على الجسد الإنساني بحیث بدا لنا أنھ محاصر بین أطر قلما یفلت من اسرھا فضاعت ملامحھ وتفاصیل وجھھ وجسده ولم یظھر منھ إلا تلك الورقیات. ھذا ھو حال العراقي في الشارع الغربي، وجوده محكوم بمفردات أخرى غیر تلك المفردات التي رایناھا في لوحات شاكر حسن آل سعید ومحمد مھر الدین وغیرھم یذكرني معرض فاضل نعمة بالكثیر من تفاصیل الفن العراقي بعد الثمانینات یوم عمت الورقیات والارقام والحروف والخطوط الحادة النازلة من فضاء مبھم على سطح اللوحة وھي تحیل الكائن العراقي إلى رقم في سلسلة من المباحث الیومیة لسلطات البعث عن وجوده. ھذا التجاور بین الشارعین العراقي والھولندي في معرض الفنان فاضل نعمة یتحول ھنا إلى معادلات ریاضیة تتداخل فیھا كل مفردات الحداثة الأوربیة، نحن في مرحلة التخلص من قیود زمن مضى ولكن العیش دون رقابة صارمة في شارع آخر كلھ حداثة قد یولد لنا صدمة ھذا ما خلصت إلیھ من معرض الفنان فاضل نعمة. 2

ھذا على المستوى النفسي للمعاینة الرمزیة للعلاقة بین الإنسان ومكانھ،وھو مستوى غیر دقیق للحدیث النقدي المتماسك خاصة بعد أن اصبح المكان مأوى یختصر تاریخا طویلا من العلاقة بین الإنسان والطبیعة. وفي ھذا المعنى المباشر ثمة مزالق توھمنا أننا نكتب أدبا عراقیا ونحن بعیدون عن العراق،ولكن في حالة المزاوجة كما فعل فاضل نعمة نصل إلى حقیقة آخرى وھي أننا نستطیع أن نتخلص من مكبلات الشارع العراقي دون أن ننغمر كلیا في حداثة الشارع الأوربي. فأنت لا تستطیع ان ترفض الشارع العراقي لمجرد أنك تعیش في شارع أوربي آخر ھنا لا مرآة في جوف المكان المرأة ھي أنت وأنت فقط الذي یقرر مدى الكیفیة التي یرفض بھا أو ینسجم. وفي الوقت نفسھ لا یمكنك أن تنتمي كلیا للشارع الأوربي دون أن یكون الشارع العراقي موجودا فیك،فما زال جزء من المرآة یرحل معنا، ثمة معادلة نستعیرھا دائما من الأدب المغترب الأوربي ونقول أن الأدباء الأوربیین الذین ھاجروا من المانیا الفاشیة او روسیا وجدوا مجالا لأن یبدعوا في بلدان أخرى، والسبب ھو أن ثقافة البلدان المھاجر إلیھا لا تختلف ا كثیرا عن ثقافة البلدان التي ھاجروا منھا، لذا فالھجرة تجدید، في حین أن حقیقة ما جرى لنا غیر ذلك فنحن ھاجرنا من ثقافة متخلفة قیاسا للثقافة الأوربیة. لیس ثمة فواصل ثقافیة أو حداثویة كبیرة بین ألمانیا والنمسا وأمریكا أو روسیا أوالجیك ، في حین ثمة فواصل كبیرة بین العراق ودول الغرب. فالھجرة دائما لیست مكانیة بل ثقافیة وھذا ما جعل برشت مثلا یكتب أفضل مسرحیاتھ وھو مھاجر في حین أن ھجرة المثقفین العراقیین ھي ھجرة مفارقة بین ثقافة مشدودة إلى تراث دیني وقومي تتحكم بھ حتى لو كان متمردا علیھا، وثقافة غربیة منطلقة ومتحررة من التراث الدیني والقومي ، المفاجأة المرتقبة لنا تظھر عندما نعرف كیف استوعب ھذا الشارع الحداثة الغربیة ولم یستوعب شارعنا العراقي ما حدث في العراق. لذا فمن الصعوبة ان ینتقل الفنان نقلة نوعیة دون أن یمر بمرحلة المزاوجة التقنیة والفكریة بین الشارعین، الشرط ھو الأبداع مقیاسا لوجود الفنان في الشارع الغربي/ العراقي أینما كان شریطة أن یكون خارج المرایا.

لمعنى الوجود في المكان العراقي ھنا أو في الداخل ابعاد أعمق بكثیر من الوجود الجسدي. وھذا ما یمكن أن یفرق بین مثقف منغمر كلیا بحركة الشارع العراقي وبین مثقف یرقب حركة الشارع العراقي من نافذة زمنیة كان قد مر بھا قبل ثلاثین عاما وھا ھو یستعیدھا من نافذتھ الأوربیة التي یغبشھا الضباب، فلا یجد ملامح بغدادیة او بصریة بل ربما ملامح حضرموتیة قدیمة..أن حركة المرور مثلا وھي شكل من اشكال الحداثة لأي إنسان یعي دور الشارع في حیاة المدینة الحدیثة تلقن من یعشھا الحذر والخوف والترقب والتي بامكانھا ان تمنحھ الحریة أو عدمھا فإذا تجول ھذا الانسان في بغداد ولقي صعوبة في المرور بین السیارات وتقاطع الطرق في ساحة التحریر والباب الشرقي مثلا ،عندئذ سیجد نفسھ في حریة تامة للحركة في مدینة مثل البصرة أو السماوة أو اربیل حیث تقل زحمة المرور " ھذا ما یشیر لھا لكوربوزیھ وھو یعبر شارع الشانزیلیزیھ ذات لیلة صیفیة ھندیة في باریس 1924 لیكتب بعدھا بیان الحداثة". معلنا أن حركة السیارات الصاخبة مشلكة تعارض حریة القدمین. لوكوربوزیة یشیر ھنا إلى قصیدة لبودلیر قبل نصف قرن تتحدث عن ھالة الشوارع. نحن المھاجرین نبني تصورنا عن حركة الشارع في أمكنة مختلفة،ھناك حیث الفوضى، وھنا حیث التنظیم، ونجاورھما معا في كتابة قصیدة وھذا ما لم یتح لمثقف یعیش منذ ثلاثین سنة في شارع غربي لھ قوانینھ الأخرى لان یفھم أن استعارة الحركة خلال مرآة نافذتھ العراقیة القدیمة حماسة قد لا تؤدي دائما لكتابة قصیدة عن العراق، في حین أن القصیدة عن العراق منبثقة من حركة الوجود نفسھ في المكان العراقي. وھذا ما یجعل شاعرا یكتب عن امریكا مثلا بوصفھا دولة محتلة للعراق فیشتمھا ویذمھا ویلعن كل تاریخھا،لانھا قیدت الشارع العراقي لعرباتھا المدرعة وشاعرا آخر یكتب عن العراق بوصفھ بلدا ناھضا من جدید بالرغم من وجود البسطال الأمریكي على ارضھ. في حین ان كلتیھما: أمریكا والعراق في حركة تجاذب متناقضة ومبھمة في الشارع العراقي. فقد یعود الجندي الامریكي من العراق بعد عام لیكتب روایة انطباعات - علما أن المثقف العراقي المغترب عن حركة الشارع العراقي لن یكتب حتى الانطباعات، الكامیرا وحدھا تصور ما یجري وھذا سر نشاط السینما الوثائقیة العراقیة قبل وبعد سقوط النظام- فالجندي الأمریكي یھمھ أكتشاف نفسھ في المكان العراقي لیعید بالكتابة تصوره عن المكان الأمریكي، ھنا تبدا المفارقة بین إنسان یشترك وآخر یراقب، نحن في الخارج مراقبون ما زلنا نعیش في مرایا مقاھینا القدیمة. ثمة رغبة حقیقیة لدى الإنسان العراقي المثقف لان یقال انھ یشارك جموع ملایین الناس وھم یتحركون في وجودھم الیومي، آه كم ھي عظیمة حركة الناس في الصباح وأنت تشاھدھم یتحركون في كل اتجاه دون أن تعرف وجھتھم غیر أنھم موجودون في الشارع العراقي، وثمة رغبة لدى البعض في أن یقمعوا مثل ھذه الحركة مادامت قوات الاحتلال موجودة. لا أعني الإرھابیین والمفخخین فقط، بل جموع أخرى جالسة ترى حركة الشارع العراقي في مرایا المقھى القدیم. لا تنفعنا المواقف الثقافیة المستعارة من الآخر في مثل ھذه المقارنات، قد یكون ھارولرد بنتر الحائز على جائزة نوبل لھذا العام مھما وكبیرا وھو كذلك، لأنھ یكتب وفق قناعاتھ التي وفرھا لھ الشارع الأنجلیزي عن الحرب ودور بریطانیا، لكنھ لم یر ما یحدث في الشارع العراقي إلا ما تعكسھ مرایا الواقع الأنجلیزي عنا، قد نفكر معھ حیث یفكر وفق ما تملیھ علیھ مواقفھ وبقي علینا نحن أن لا نستعیر مواقف غیرنا لنسند بھا أخطاءنا عن الشارع العراقي. كل من یكتب عن العراق من نافذتھ الغربیة ویشتم امریكا ادنى وجودا في العراق من شاعر یكتب عن امریكا بالقسوة نفسھا وھو موثق إلى الشارع العراقي. استمیح عذرا أن المحت للبعض من أدبائنا العراقیین في الخارج، ولكني أجد أن كبریاء المثقف العراقي لا تلتصق بلجد اي ھارب من الشارع العراقي. نحن نسعى لوجود نوع من النصوص تعكس طریقة وجودنا فیھا،ھمنا الأساس ھو أن لانقول ما لم یحدث، بل ان نراقب ما یحدث، وان نثمن ما یحدث، وان ننتقد ما یحدث، وان نرفض أو نقبل ما یحدث. نحن في مرحلة عراقیة لیس فیھا مستقر ثابت أو متحرك بلا ثوابت، أننا في دوامة من حركة السلب والجذب التي تمنحھا لنا إرادات الناس وھم في حركتھم الیومیة. أنني استعید الآن المشھد المأساوي الذي مرعلى بغداد في 9 نیسان 2003 وھي تسقط دون مقاومة فأجد الشارع فارغا من معناه عندما كان ممھدا ومنذ فترة طویلة من قبل النظام الفاشي لأن یكون ممرا

3

لدبابات المحتل واقدام اللصوص والسراق والمھربین والارھابیین. نحن ھنا نشاھد كل المشھد المركب الذي یمر أمامنا عبر الشاشات على مسرح الشارع الذي تعرضھ كامیرات الفضائیات العربیة المتحجرة وصورلدبابات تتحرك في بطء فوق جسور الروح العراقي، وثمة حركة للكتل المكانیة وھي تستعید وجودھا بعد أن غیبھا الحاكمون وكأنھا تحارب عوضا عن جیش انھزم ، لاول مرة نرى اننا في مدینة عاریة تخلو من العراق، مدینة تصلح أن تكون ساحة للعبة كارتونیة لأطفال القرن القادم، اشباح وحكام منھزمون ودبابات أمریكیة وشارع فارغ ومعارضة منعت من المشاركة. عندما انعدم الفعل الذاتي للمعارضة فقد الشارع معناه واصبح الناس في فراغ بوجود قوى أخرى مبھمة تھیمن على الشارع. ھنا یبدو أن ثقافة المعارضة خاصة تلك التي ادعت بوجود جیوش لھا على الحدود مع إیران وفي الداخل فارغة تماما من محتوى القدرة على بث اي نوع من الفعل المشارك حتى لو كان على المستوى الذاتي واستعارت لنفسھا ثقافة الفوضى التي انتقلت لاحقا إلى سلطة الفوضى، وبدا لنا ذلك الانتصار واھیا عندما تأكد لاحقا في المحاصصة السیاسیة التي تعمقت اكثر في تبادل مراتب النھب وتوزیع أدوار السرقة والفساد.